انتقلت بأقفاص الخضار والفاكهة التي تبيعها يوميا لتستقر بها أسفل الكوبرى على امتداد الأكشاك المتناثرة بطوله .. تخيلت أن وقفتها الجديدة لن تطول ، لكنها مازالت هناك، أتابعها يوميا تجلس في أمان .. لا أعرف إن كانت عيون شرطة المرافق لم تلمحها بعد؟ أم أنها تغض الطرف بعدما باتت العشوائية تصم الكل .. ففيها أصبحت الحكومة والشعب سواء.
منذ أن حلت الكبارى ضيفا ثقيلا على سكان مصر الجديدة، الحى الراقى العتيق، وشعور بالإغتراب بات مهيمنا عليهم .. لم تعتد أعينهم رؤية تلك الكتل الخرسانية الصماء، شوهت بإرتفاعاتها الصادمة للعيون جمال وسم الحى لعقود طويلة .. قضت على خضرة فسيحة مبهجة تصطحبك طوال الطريق ، بإنتهائها كنت تخرج لعالم آخر يفتقد ذلك الجمال المحبب.
باختفاء الأشجار الموردة الجميلة بعدما طرحتها الكباري أرضا.. افتقد الحى الجميل بهجته وإن بقى لعبيره أثر لايزال يثير حنينا ممزوجا بالرثاء والحزن لما وصل إليه الحال.
يتقبل البعض التغيير المزعج أحيانا باضطرار من لايملك حيلة، فيؤثر التماهى مع الواقع محاولا إقناع نفسه عنوة بما يردده أصحاب القرار بأنه لم يكن هناك بديل للحل سوى تلك السلسلة من الكباري فهى وحدها القادرة على مواجهة الزحام وخنقة المرور التي عانى منها الحى الجميل.
لا تقنع حجتهم النميسة آخرين ممن رآوا أن الهدف لم يكن أبدا حل مشكلة ذلك الحى، لكنه مجرد تكئة وحجة يخفى وراءه هدفا آخر وغرضا آخر في نفس أصحاب القرار وهو تسهيل الطريق وتمهيده للوصول للعاصمة الإدارية الجديدة، درة التاج، الذى تسعى الدولة للتباهى به وتذليل كل العقبات التي تحول دون الوصول إليه حتى لو كان على حساب الملايين من الشعب المطحون.
إذا سلمنا جدلا بنبل الهدف، وإذا سلمنا بحتمية إنشاء الكبارى يبقى التساؤل عما وراء الهدف من السماح للمطاعم والكافيهات ومحلات الوجبات السريعة باحتلال أسفل الكباري، لتضيف تشوها آخر وصخبا جديدا للمكان وتضيع معها كل محاولاتها الركيكة للتجميل بوضع أصص الورد والزرع الصناعى وتصبح مجرد تحايل كذوب وغير صادق يؤذى العيون ويزيد الحزن على جمال طبيعى مبهج ولَّى إلى غير رجعة.
عشوائية مزعجة لم تسلم منها الأحياء الراقية لتصطف لجانب عشوائية أخرى شهدتها معظم الميادين.. عندما اقتحمتها أكشاك أمان وتحيا مصر لتصدم المارين بقطع اللحم المعروضة والمعرضة لكل مسببات التلوث من عوادم سيارات وأتربة وخلافهما.
أمام العشوائية الميرى ليس مستبعدا أن يتسلل الباعة بين الحين والآخر ليحتلوا بدورهم جزءا آخر من الميادين وأسفل الكبارى .. وليس غريبا أن يأخذ الحماس شرطة المرافق لتطاردهم كما اعتادت بحجة عرقلة المرور وتشويه الطرق.. لكن مايبدو حقا غير مقنع وغريب، هو أن تواصل الحكومة الضرب بيد من حديد على المهمشين بينما تغض الطرف عن أنها تسير على نهجهم وتفعل ما تدينهم بارتكابه.
كما قلت ، في العشوائية الحكومة والشعب سواء، وفى المواجهة يكون من الإنصاف معاقبة الجميع أو يكون الصمت على الكل سواء .. ولا عزاء للباحثين عن الجمال والرقى والتحضر، والمعارضون والمتحفظون على سياسات الدولة يمتنعون.
--------------------
بقلم: هالة فؤاد
من المشهد الأسبوعية